..
أواخر سبعينيات القرن الماضي كان على التّلاميذ الحاصلين على شهادة الثّانوي
الإعدادي أي النّاجحين في امتحان نهائي السّنة الرّابعة ثانوي في طاطا وفي نواحيها
، كان عليهم حزم أمتعتهم والسّفر إلى مدينة تارودانت للتّسجيل ومتابعة ماتبقى من
الطّور الثّانوي إلى غاية البكالوريا وحجز أمكنتهم في إحدى داخليّات المدينة .
نهار الثّامن من شتنبر سنة تسع وسبعين وتسع مائة وألف حجز بعض تلاميذ طاطا بطاقات
سفرهم على متن حافلة ساطاس . الحافلة التّي تنطلق في الخامسة والنّصف صباحا كان
عليها أن تقطع طريقا دائريّة في اتّجاه شمال المركز مرورا بدوار تغرمت ودور أكادير
الهناء ثمّ دوار أيت ياسين نحو مدينة تارودانت عبر إيسافن وإغرم في طريق غير
معبّدة قد تستغرق الرّحلة بين النّقطتين إثنا عشر ساعة على طول مائتا كيلو متر فقط
..كانوا شبابا في ريعان ربيعهم ؛ وكانوا بلا شكّ قد قضوا ليلتهم الأخيرة في أحلام
ورديّة عن مدينة جميلة تاريخيّة ستحتضنهم
بعد يوم فقط قبل أن تداعبهم أحلام عن المستقبل القريب هو كذلك ؛ بلا شكّ كان
الفتية يحلمون بوظيفة في مقبل الأيّام يتمكّنون بواسطتها من الظّفر بزوجة
والإستقرار في عشّ عائلة يكونون هم من يدبّرون أمر بناء صرحها . لم تكن أبدا احلام
شباب طاطا وهي البلدة النّائية عن مركز الوطن بمئات الكيلو مترات تتطلّع إلى سقف
أكبر من ذلك ولكنّ القدر بالمرصاد لهذه الثّلّة الّتي استطاعت بعد جهد جهيد أن
تجتاز عقبة امتحان الشّهادة الإبتدائية ثمّ بعد ثلاثة أعوام هاهي تحقّق المهمّ
شهادة الرّابعة ثانوي ثمّ الأهمّ بعد ثلاثة أعوام أخرى البكالوريا ومن بعد هذه
الشّهادة الأخيرة تنفتح أبواب التّوظيف . وكانت وظائف من قبيل " معلّم "
، " ممرّض " ، دركي " وحتّى أستاذ في متناول الحاصلين على شهادة البكالوريا
آنذاك . و فتية طاطا لا يطمعون في أكثر من ذلك لفقر عوائلهم الشّديد وعدم استطاعة
أولياء أمورهم إمدادهم بأموال تمكّنهم من ارتقاء الوظائف السّامية المحسوبة على
النّخبة في المجتمع المغربي ، والّتي أوصدت أبوابها إلى حدّ ما أمام الصّاعدين
المحسوبين على المغرب العميق .. بلا شك كانت أمّهات وكان آباء هؤلاء الفتية
المتأهّبين للسّفر إلى مدينة تارودانت كلّهم راضون على أبنائهم وهم على وشك أن
يروا أبناءهم رجال الغد يرصدون فيهم طموحات وآمالا لم تكن الفرصة قد أتيحت لهم في
زمانهم الّذي ولّى كي يبلغوها ، كان الّذي زرعوه قد أوشك على الحصاد .!.... لم يكد
الخيط الأبيض من الفجر يلج في سمّ خياط الخيط الأسود ليوم التّاسع من الشّهر
التّاسع في العام الأخير من عقد السّبعينات من القرن الماضي حتّى انطلقت حافلة
ساطاس من ساحة المسيرة الخضراء . ولأنّها من حافلات الطّراز القديم فإنّ سائقها
غير مستعجل . السّائق الرّجل المعروف ب" القرع " (واسمه الشّخصي "العربي") لعدم وجود ايّة زغبة شعر على أمّ رأسه ، ربّما في عقده الخمسين معروف عنه تدخينه
باستمرار لغليون محشوّ بالكيف أو ما يسمّى دارجيّا بالسّبسي ومتميّز بأريحيّته
الدّائمة المبالغ فيها أحيانا ونرفزته الفجائية عندما يستفزّ عمدا . ببنيته
النّحيلة وسحنته البيضاء المائلة للحمرة لم أشاهده شخصيّا إلاّ من وراء مقود حافلة
طاطا – إيسافن – تارودانت . كان يرافقه مساعد لم أعرف عنه شيئا . هذا الأخير هو من
يوقد محرّك الحافلة نصف ساعة أو أكثر قبل قدوم السّائق للإنطلاق بها من ساحة
المسيرة الخضراء في اتّجاه سهل سوس وهو من يمنح التذاكر للمسافرين ، هو من يرتّب
أمتعتهم داخل صنادق الحافلة الجانبية أو في أعلاها .. الحافلة تجتاز الطّريق الغير
المعبّدة آنذاك من المركز باتّجاه أكادير الهناء مرورا بدوار تيغرمت .. كانت
الحالة الجويّة مضطربة طوال الليلة تلك ، الرّعد يهدر طوال اللّيل والبروق ما تفتأ
تتوقّف على مدار ليلة كنّا نحسب أنّ أمطارا غزيرة لا بدّ وأن توشك على الهطول ،
لكنّ شيئا لم يقع إلاّ من زخّات متفرّقة بلحظات زمنيّة ما أمكن من تشكيل برك مائية
هنا وهناك دون أن تروي ظمأ التّربة العطشى لأريج المطر منذ شهور. في الوادي الّذي
يفصل دوار أكادير الهناء بدوار تيغرمت وفي النّقطة الّتي كان على الحافلة اجتيازها
لبلوغ الضّفّة الغربية تجمّع ماء غزير فتحوّلت إلى بركة ماء عميقة شيئا ما . في
غبش الفجر لم تكن الأمور واضحة بالنّسبة للسّائق ، الطّريق تبدو أمامه على الأرجح
كنفق مظلم نظرا لضعف أضواء الحافلة الخردة والّتي لا توضّح أبعاد الطّريق بدقّة
كافية ، ربّما السّائق كان قد استفاق بعد نوم ثقيل أو لم يكمل بعد رقدة كافية
لإزالة عياء اليوم الفائت ؛ السّائق الأصلع النّحيل البنية لم يتردّد بلا شكّ في
تعبئة غليونه من الكيف حتّى يتمكّن من فتح أبواب يوم جديد بحيويّته المعتادة ..
غاصت عجلتا الحافلة الخلفيتان في ضويطة المستنقع المائي فجأة ؛ لكنّ السّائق لم
يبال فزاد من سرعة الدّفع إلى الأمام ماجعل الحافلة تغوص في الوحل الطّيني أكثر
فأكثر حتّى استحال إخراجها نهائيا . أمر السّائق الرّكّاب أن ينتظروا حتّى مجيء
العون من المركز إمّا بالبقاء في جوف الحافلة أو بالنّزول منها إلى إحدى ضفّتي
الوادي .أغلب الرّكّاب التزموا أماكنهم لعدم رغبتهم في نزع أحذيتهم الجديدة وجمع
أطراف سراويلهم وعبور البركة المائية الّتي قد تعني بالنّسبة إليهم لزوم ما لا
يلزم . الآخرون لم يجدوا غضاضة في نزع أحذيتهم ورفع أعقاب سراولهم إلى مبتدأ
الفخدين والنّزول من الحافلة الّتي أوشكت المياه أن تلامس أدراج أبوابها . فضّلوا
الإنزواء تحت أشجار النّخيل في الضّفّة الشّرقية للوادي وانتظار ما وعدهم به
السّائق ومساعده وهو ما تبيّن بعد نزول هذا الأخير والتّوجّه إلى المركز والعودة
بآلة " التّراكس ّ من مندوبية التّجهيز والإنعاش الوطني .. القدر حسم أوراقه
الأخيرة وأصدر حكمه النّهائي : ماكاد مساعد السّائق يخطو بضع خطوات في اتّجاه
المركز وماكاد يبتعد عن الحافلة المحجوزة وسط البركة المائية وسط الوادي حتّى سمع
هديرا مزلزلا كأنّه هبوب رياح عاصفة أو زلزالا بقوّة سبعة على مقياس ريختر يصمّ
الآذان . مساعد السّائق والركّاب الّذين ينتظرون على ضفّة الوادي لم يكونوا
يتصوّرون هكذا مشهد : في غبش الفجر وفي لحظة خاطفة كان السّيل العرم الآتي من
الجبال البعيدة الشّمالية يكتسح ضفاف الوادي من أقصاها إلى أقصاها دون أن يسمع
هديره كالمعتاد من بعيد ؛ الماء الدّافق يعلو وأمواجه الّتي لم تكن معالمها واضحة
جدّا تطوّق الحافلة على حين غرّة . الّذين ينتظرون في الضّفة الشّرقية طاردتهم
ألسنة المياه الغديرية الزّاحفة ففسحوا لها المجال وقلوبهم تكاد تخرج من أقفاصها
رعبا وهم يرون الحافلة المسكينة وما عليها من سائق وركّاب تحملها الأمواج عاليا
وتدحرجها بعيدا ، هم سمعوا صخب الرّكّاب المساكين المحجوزين في الحافلة ، سمعوا
صراخهم ، سمعوا أنينهم وأخيرا سمعوا تشهّدهم لمّا يئسوا ورأوا أن كأس الموت لا بدّ
وأنّهم متجرّعوها لا محالة مرّة مرارة الدّفلى . كان أصدقاء الشّهداء والّذين نجوا
لسبب أو لآخر يروون بالتّفصيل مشهدا كأنّه فيلم أو كأنّه مشهد من مشاهد تسونامي
جنوب شرق آسيا أو مشهد من مشاهد تسونامي
اليابان الأخير . بعد لحظة كان هدير المياه الغديرية هو سيّد الموقف ؛ انقشع
الظّلام ومرّت لحظات ترقّب عسيرة على أصحاب وذوي غرقى الوادي الغادر وكذلك على
السّلطات المحلّية ورجال الدّرك والإسعاف المحلّي التّابع للمستشفى المركزي هؤلاء
كلّهم وقفوا عاجزين على اتّخاذ أيّ خطوة إلى الأمام ، ثمّ هاهي الشّمس تبزغ ولا أثر للحافلة
المنكوبة لا أثر لجثت ركّابها .على مدار اللّيلة الّتي سبقت الكارثة الأولى من
نوعها في بلدة طاطا والتي لم يشهد السّكّان مثيلا لها ، كنّا نحن الأطفال مرتاحين
لغد سيكون بلا شكّ ماطرا وبلا شكّ سيحمل الوادي ويفيض وسيسقط عنّا ضرورة وواجب
الذّهاب باكرا إلى المدرسة والّتي تبعد عن دوار أكادير الهناء بنحو كيلو مترين .
كنت في القسم الخامس أدرس بمدارس النّخيل المجموعة المدرسية الوحيدة آنذاك بالمركز
والوحيدة الّتي تستقبل تلاميذ المستوى الخامس من محلّيين وأبناء الدّواوير المجاورة
كتيغرمت وأكجكال وأيت ياسين وإينضفيان . كنت من الّذين لا يسعفهم وضعهم الإجتماعي
البائس من امتلاك درّاجة هوائية ممّا نضطرّ مع هذه الحالة إلى الإستيقاظ قبل موعد
الدّرس بساعة على الأقلّ . كانت الحصّة الصّباحية مخصّصة لمادّة العربية وأخواتها
وتبتدىء من السّاعة الثّامنة ونصف إلى غاية الحادي عشر ونصف أعود بعدها راجلا إلى
منزل أمّي أو في أحيان كثيرة إلى منزل أبي لأتناول وجبة الغذاء لأعود بعدها إلى
المدرسة لأستكمل الحصّة المتبقّية والمخصّصة للغة الفرنسية والّتي تبتدىء في
السّاعة الثّانية بعد الظّهر وتنتهي في الخامسة مساء . الرّعد الّذي يهدر طوال
اللّيل نذير فأل على عطلة سنرتاح فيها غصبا . في الصّباح لم أكن على عجلة من أمري
حين تناولت فطوري في منزل امّي وكان لديّ اعتقاد جازم من أنّ الوادي سيفيض
كالمعتاد . كان منزل أمّي فوق الهضبة أعلى المنازل الموجودة في محيطها وكان
بإمكاني رؤية منبسط الدّوار ويسمّى بووفزى وكان بإمكاني من خلال نافذة في حجرة
علويّة للمنزل التّأكّد من أنّ الوادي فائض . حيث لا يبتعد مساره عن الدّوار بأكثر
من نصف الكيلو متر ، وكان بإمكاني سماع هدير أمواجه المزعجة دون الحاجة إلى
التّأكّد بالنّظر المجرّد . من خلال النّافذة تأمّلت ولم أكن استسغت أن أرى أفواجا
من السّكان بما فيهم الأطفال والنّساء والشّيوخ يتسلّلون من منازلهم قاصدين ضفة
الوادي المحادية لمجموعة مدارس أكادير الهناء الإبتدائية ببوفزى . تفاجأت ، لكنّي
هرعت بدوري أطرق باب الجيران لأنتظر صديقي " محمد أمرتني " والّذي لا
يمكن أن أتحرّك خارجا دون مرافقته ، إذ هو صديقي وظلّي الدّائم . خارجين نسترق
السّمع من حشود هائلة تتجمّع على طول ضفّة الوادي : إمرأة تصيح ياويلاه على
الثّكالى ، كان الّله في عونك يامن فقدت فلانا وفلانا .. لحظة ويحضر مقدّم الدّوّار
وهو رجل من أعمامي خمسينيّ العمر بالرّغم من أنّه نحيف البنية لكنّه كان شديدا
وقويّ اللّهجة ومرعبا عندما أصدر أمره للنّساء بالإبتعاد من على ضفة الوادي . قال
إنّ حافلة أغرقها الوادي هذا الصّباح ونجهل إلى حدّ الآن عدد ركّابها الضّحايا
والّذين نجوا . شابّ عشرينيّ يحدّث المقدّم عن أنّ مكان سقوط الحافلة وغرقها تمّ
تحديده تقريبا من طرف بعض شهود الحادث في نقطة شمالا وبالضّبط أسفل الطّريق
المخترقة للوادي . بنمغار محمّد هكذا يسمّيه البعض والبعض الآخر يدعوه بلقبه
أويدير محمّد . بمحاذاة الوادي الغربية سرنا نتحاشى ألسنة مياه الغدير ، نسير
ونتعثّر حينا على الصّخور وراء المقدّم الّذي لم ينقطع كلامه مؤنّبا ، محذّرا
وسابّا وشاتما هذا الوادي الغادر ، أحيانا
أخرى يسبّ الحافلة وشركة ساطاس يوم اختارت أن تمرّ بهذه الطّريق الدّائريّة عكس
ماكانت تقوم به قبل سنتين حين تنطلق من المركز في اتّجاه الجنوب مباشرة . انتهينا
إلى نقطة احتشد فيها جمع كثير من النّاس . وفي الجهة المقابلة والّتي يفصلهما
الوادي الفائض غديرا إلى نقط في ضفّتيه قال بعض الّذين حضروا أنّه لم يكن قد بلغها
السّيل من قبل ؛ في الضّفّة الأخرى حشد آخر من سكّان دوار تيغرمت وآخرون من المركز
سمعوا بالحادث وبين الجمع حشد من المخزن بما فيه القوّات المساعدة والدّرك وسيارة
اسعاف . كانوا يشيرون على المقدّم حين لا يستطيع أن يتواصل معهم بالكلام . البعض
يحدّد مكان غرق الحافلة من الحشدين المتقابلين دون أن يكونوا متيقّنين من ذلك .
وحدهنّ النّساء من تأثّرن وصدمن بالكارثة بالرّغم من أنّ أيّا من ضحايا الحافلة المنكوبة ليس من دوار
أكادير الهناء لسبب بسيط ، أنّ الّذين ينوون السّفر عبرها كان عليهم أن ينتظروها
حتّى تقطع الوادي وهذا مالم يحدث .. فجأة شابّ يصيح وهو يقترب منّا رويدا آ تيا من
جهة الجنوب على الضّفّة الغربية : لقد وجدنا واحدا هناك ويشير إلى نقطة على بعد
مئات من الأمتار منّا وهي النّقطة الّتي أتينا منها قبل قليل مرافقين للمقدّم.
هرول الأخير وتبعناه من الخلف إلى أن وصلنا إلى مكان على جانب الوادي نبتت به صخور
عديدة وبعض الشّبّان يحاولون نزع جسد الضّحيّة المحشوّ بين حصى ورمل كان قد انحسرت
عنه المياه شابّ أسمر بكامل لباسه الغارق في الوحل . حاول الحضور التّعرف على
هويّته من خلال تقاسيم وجهه الّذي شوّهته جروح وكدمات بليغة لكن تعذّر ذلك فأمر
المقدّم بتفتيش جيوبه للعثور على بطاقة تعريفه أوورقة تشير إلى ذلك لكن لا أثر يدلّ على هويّة الضّحيّة . في جلابية أحد المتطوّعين لفّت الجثّـة بعد
أن أمرنا المقدّم بألاّ تنزع عنه لباسه وحملت على الأكتاف متّجهين شمالا إلى
النّقطة الّتي يشكّ الجميع أنّ الحافلة ترقد في أعماقها . الضّوضاء تعمّ ضفّتي
الوادي والنّاس في تقّب وانتظار انحسار كاف للمياه حتّى يتحدّد موقع الحافلة
النّهائي . عندما اجتمع حشد من الحضور لإلقاء نظرة على الجثّة الّتي أحضرناها قبل
دقائق سمعنا صراخا مدويّا من الضّفّة الأخرى : دركيّ يصرخ بأعلى صوته ويحذّر من
مغبّة تغيير أو المسّ بالمظهر الخارجي للجثّة . ردّ عليه أحد الحاضرين مستهزئا :
ما تستطيعون فعله أيّتها الحيوانات النّاعمة هي القبض بقوّة على المشتبه بهم
النّاعمين أمثالنا ، أمّا وهاهو المجرم
الحقيقي الوادّي الغدّار بين أيديكم وقد عدمتم حيلة هيّا اقبضوا عليه إن كنتم
فاعلون ؟؟ كان فيضان الوادي وخرير المياه
وهديرها حاجزا بين بعض الحاضرين ومجموعة من الجادارميّا في الضّفّة الأخرى وكان
مناسبة لتفجير بعض المكبوتات الحقوقية إلى درجة السّباب وكيل الشّتائم . صرخ
المقدّم في وجه أحدهم فأخرس الجميع في الحال في الحال .. بعد ترقّب دام ساعتين أو
أكثر وفي النّقطة المائية وسط الوادي الّتي راهن الكثير من الحضور على أنّ الحافلة
غرقت فيها . بالنّقطة بالذّات بدأ شيء على شكل ما بلون أسود تتبيّن ملامحه رويدا
رويدا إلى أن انحسرت المياه عن عجلتين لا صقتين ثمّ بعدها بقليل الإطارين الآخرين
اللّذين يشكّلان الإطارات الأربعة الخلفية للحافلة المنكوبة . كان الكلّ متوثّبا
للبحث عن الضّحايا ولو عن طريق السّباحة في تيار جارف لكنّ المقدّم حذّر الجميع من
أن يتلاعبوا مع الوادي الّذي لا يعرف اللّعب
. بينما الدّرك والمخازنيا في الجهة الأخرى يمنعون المتجمهرين من الإقتراب
من الوادي إلى أن مالت الشّمس إلى أتون الظّهيرة فانحسر الغدير بشكل كبير وجزر
السّيل وانكشف عمق الوادي . كنت وبعض
الشّبان من الذين غامروا سباحة بالرّغم من تحذيرات أعوان السّلطة حتّى أدركنا
الحافلة الّتي انقلبت رأسا على عقب وأصبح عاليها سافلها . كان الماء قد انحسر على
جزء كبير منها تاركا الوحل والطّين يغطّي الجزء المنكشف . وقد تعذّر الدّخول إلى
الحافلة عبر نوافذها الزجاجية الّتي مازالت سليمة وماء الغدير العكر الّذي لا يكشف
الأشياء عن قرب , تعدّدت المحاولات من طرف المبادرين الشّجعان إلى درجة أنّ أحد
الشّبّان تمكّن من النّفاد إلى داخل الحافلة بعد غطس دام زهاء دقيقة ظننّاه شهيدا
جديدا سينضاف إلى قائمة الصّباح الطّويلة فجأة انكشف الماء عنه : وصاح بعد زفير
وشهيق : داخل الحافلة جثّة ، لكن استعصى عليّ
إخراجها . انتظر الجميع ساعة أخرى حتّى انحسر الماء كثيرا عن الحافلة وتمّ الدّخول
بواسطة أكثر من شخصين حتّى سحبت الجثّة وكانت هذه المرّة لشابّ من دوار تيغرمت من
التّلاميذ الّذين غادروا بيوتهم صباحا متوجّهين إلى تارودانت ، تمّ التّعرف عليه
دون البحث في جيوب ملابسه عن بطاقة تعريفه . جثّتان فقط تمّ العثور عليهما في محيط
الحافلة المنكوبة . وقد استمرّ البحث لأسبوع آخر بعد الحادث على طول كيلومترات في
جنبات وأعماق الوادي حتّى تمّ العثور على كلّ الضّحايا حملتهم أمواج الغدير بعيدا
وتمّ إغلاق الملفّ بتسع ضحايا في التّاسع من الشّهر التّاسع لسنة تسع وسبعين تسع
مائة وألف ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق