المواضعة.
عندما ينظر سوسيور إلى اللغة ، كمنظومة لغوية مطلقة، فإنه يسمح بالقول بأن اللغة ليست المنظومة الإشارية الوحيدة، وأن ثمة منظومات أولية كثيرة من هذا النوع (أو "اللغات")، علىسبيل المثال، فإن علامات الطرق والإشارات الضوئية تعتبر منظومات إشارية أيضًا: إنها تمثل شكلا من أشكال "اللغة". فالدال هنا هو "اللون الأخضر"، وهو يتطابق والمدلول، الذي يعني"الطريق خال"، والعلاقة القائمة بينهما هي علاقة مواضعة غير معّللة ، مثلها مثل العلاقة اللغوية ومن هنا يستخلص دي سوسيور ضرورة وجود منهج نظري عام لدراسة المنظومات الإشارية بشكل عام : وهذا العلم يسميه السيميا(السميولوجيا).وبناء على رأيه، فإن علم اللغة هو جزء من هذا العلم المفترض فقط ينطلق بارت من فكرة دي سوسيور هذه ليصنف المنظومات الإشارية الأخرى. يرى بارت في الملابس مثلا، إضافة إلى الجانب النفعي، منظومة أشارية أيضًا "لغة" (الملابس تعني شيئًا ما،مثلا اللون المعتم وما يطابقه من غطاء تمثل الدال، الذي يضفي على المدلول، كما هو متداول ، هيئة "الوقار" و"الرسمية") ،ويدرج بارت الطعام والسيارات الخفيفة في نطاق المنظومات الإشارية ("أسس السميولوجيا"). ونذكر هنا أن بارت يعتبر عددًا كبيرًا من الحقائق الحياتية التي تكتسي دلالة إنسانية ما مثل: ("رحلة على دراجة في فرنسا"، "النبيذ المعتق"، وماشابه ذلك) ، يعتبرها ("مؤسطرة"). ويكشف بارت في جميع هذه الحقائق الدالة والمدلول المرتبطين بعلاقة مواضعة غيرمعّللة . يمكن ترجمة هذه المنظومات الثانوية "المادية" إلى اللغة الطبيعية: مثال ذلك، الموضة التي يمكن وصفها بالكلمات. إن جميع هذه الأشياء (الملابس، الطعام، وغيرها)، توجد فعليًا، وهي جزء من الحياة اليومية للإنسان. لكن،أليست تصرفات الأبطال في رواية ما تشكل منظومة إشارية مادية فعلية منسوجة بالكلمات،ولها قوانينها الخاصة؟! يعتبر بارت أن الامرهو كذلك فعلا ً، يعني أن العالم الفعلي في أعمال هذا الكاتب "مؤسطر" (العالم -حسب رأي بارت- هو "لغة"، يعني منظومة إشارية ثانوية). وهكذا، فإن السلوك الموصوف في العمل الفني، إذا كان حقيقة، وليس وهمًا، فإنه يكون ما يشبه اللغة المادية، كما هو الشأن في حالة لغة الموضة. ويتوصل بارت، وهو يعالج إبداع ساد،إلى نتيجة مفادها أن هذا المؤلف أشاد "لغة" نمطية للمتعة الايروسية، وهذه اللغة تتشكل من شعائر ايروسية مغالية، يتَّبعها أبطال ساد في سلوكهم. ويكشف بارت في الشعائر المذكورة أعلاه نسقية ما، يعني "دلالة" (اختيار حركات وأوضاع وإيماءات ذات دلالة)، و"قواعد نحوية" (اختيار أسس لتركيب عناصر "سيميائية"). وبهذه الوسيلة يشيد فورييه "لغة" السعادة المجتمعية: ويخضع كل شيء عند الكتائب المتطرفة لنظام داخلي معين ونسقية محددة. وينشئ لويولا أيضًا "لغة" للعقيدة:فعنده لا يتم الترقب من الذات الإلهية بشكل تلقائي، وإنما بفضل المحافظة على احتفالية محددة. وهذه النسقية الداخلية بالذات (وجود روابط وظيفية بين العناصر)، التي تصف العالم المتخيل (الشبقية الايروسية، اليوطربيا الاجتماعية، وقوة الجذب الغيبية) تشكل جميعها لغة لويولا. هل يمكن أن تتواجد منظومة العلامات الثانوية ("اللغات المتولِّدة")، على أساس اللغةالطبيعية نفسها؟ يقدم بارت جريا وراء هيلمسليف عالم اللغة الدانماركي جوابًا إيجابيًا على هذا التساؤل ("أسطوريات"، "أسس السيميولوجيا"). لنأخذ حالتين: أ) علامات اللغة الطبيعية تشكل مدلول "اللغة" المتولِّدة؛ ب)علامات "اللغة" الطبيعية تشكل دال "اللغة" المتولدة...الظواهرالتي تتفق والحالة الأولى يسميها هيلمسليف "دلالة" أومؤشر؛ اللغة الثانوية التي تنشأ نتيجة هذه الدلالة تشكل في ذاتها لغة اصطناعية شارحة (ميتالغة). ومايهم دارس الأدب هو في هذه .(connotation) " الحالة الثانية أكثر من غيرها، وهذه الحالة يسميها هيلمسليف"تضمين الحالة يكتسي النص كله، الذي يتكون من عدد من علامات اللغة الطبيعية، معنى ثانويًا جديدًا، وهذا المعنى الجديد بدوره لا يلتقي مع أي معنى من معاني الكلمات المفردة الموجودة في النص. وبكلمات أخرى، فإن النص كشيء متكامل يصبح علامة جديدة، تكون فيه علامات اللغة الطبيعية (يعني الكلمات) هي الدال، أما المدلول فهو شيء ما جديد (يعني عدم إمكانية تصوره كمجمل لمعاني الكلمات المفردة في النص). لنأخذ على سبيل الايضاح المثال التالي، الذي يورده بارت في
مقدمة كتابه "مقالات نقدية". إن عبارة "عزاء حار" في علاقتها بالمتوفى القريب تتضمن المعنى الثاني ("التقدير المراسمي")، الذي لا يمكن العثور عليه في أية كلمة من الكلمتين الموجودتين في العبارة السابقة ككل:
العزاء الحار = الدال الضمني.
التقدير المراسمي = المدلول الضمني.
فإذا كان هذا التعبير العادي المكون من كلمتين يمكن أن يكتسي معنى ثانويًا، فلماذا لا يمكن أن ينظر إلى النص كله كدال متكامل ، يراعي أي مدلول ضمني آخر؟ مثال ذلك، أن هذا النص يمكن أن يتضمن جوًا انفعاليًا ما. نقول إذا أردنا أن نبلغ أهل المتوفى عزاءنا الحقيقي الحار، علينا أن ننشئ نصًا، مشحونًا ككل متكامل، بالحزن والأسى والمشاركة(مع احتمال أن لا تكون هذه الكلمات من ضمن فقراته). بينما لا يمكن أن يكون مثل هذا النص شيئًا آخر سوى كونه نصًا أدبيًا. إن جوهر الأدب -حسب رأي بارت- يتلخص في التضمين: "الأدبية" في الأدب ليست سوى نسق إشاري ثانوي، ينمو على قاعدة اللغة الطبيعية ويخضع لإمرتها". وبإجراء مماثلة مع الموضة وإشارات الطرق واللغة الطبيعية يتوصل بارت إلى توكيد يقول بأن المعنى الضمني في الأدب غير معلل، يعني أنه يأتي نتيجة لمواضعة "حيادية". وعلى علم الأدب أن يكون -حسب رأي بارت- في مثل هذه الحالات جزءًا من علم عام لأنساق العلامات الثانوية -السميولوجيا(السيميائية).
2 - نقد الفرضية السيميولوجية. إن تأكيدات بارت هذه خاطئة للغاية. وفي حقيقة الأمر، فإن الخطأ في هذه الحالة لا يعود إلى بارت، وإنما إلى علم اللغة البنيوي، الذي أشاد، بفضل أهم ممثليه البارزين (دي سوسيور، وهيلمسليف)، تصورًا وضعيًا خاطئًا عن اللغة. تولي البنيوية في علم اللغة، أهمية خاصة لما يمكن ملاحظته مباشرة، يعني هنا الدال. ولهذا، ليس مصادفة أن تحرز البنيوية أهم مكتسباتها الوحيدة، التي لا نقاش فيها، في حقل الفونولوجيا، أما فيما يخص المعنى، فإن البنيويين الحقيقيين لا يعتبرون المعنى موضوعًا للدراسة اللغوية. أما أولئك الذين يفترضون أن علم اللغة ينبغي أن يشتغل بالمدلول، فإنهم يعتبرون وبسذاجة أن علم الدلالة "البنيوي" يتعين عليه أن يكون شاشة شفافة للفونولوجيا، يعني أن تكون بنية المدلول هي ذاتها بنية الدال (المتضادات غير المتتابعة، التقطيع).
وبكلمة واحدة، يقع علم اللغة البنيوي في إسار الوضعية : فهو يرى أن الوصف الجوهري
للغة متضمن في العلامة التي تفضي في نهاية الأمر إلى ماهو خارج العلامة، يعني إلى الدال.لهذا، فإن تصور البنيويين للغة لا يمكن أن يكون دقيقًا. إن الإشكالية اللغوية الجوهرية والحقيقية ليست في الدال، وإنما هي في المدلول، في المعنى. والدال (الوسيط المادي)، حقيقة ثانوية خارجية غير جوهرية، أما الحقيقة الفعلية فتكمن في المدلول (في "معقولية" اللغة). إن هذا التحديد للغة يضطرنا أن ننظر إلى اللغة، قبل كل شيء، كوسيلة "لإدراك المعقول". مع رفض التصورالوضعي للغة كمنظومة علامات (إشارات)، تنتفي كذلك فرضية وجود "اللغات الثانوية" التي تفترق عن اللغة الطبيعية. إن المعنى "الضمني" (أو الأدق، الشمولي)، للنص يحضر فقط نتيجة العلاقة القائمة مابين المدلولات (يعني بين معاني الكلمات المفردة في النص). إن الدلالات المفردة في النص لا تشكل دالا شموليًا: فالنص متكاملا على مستوى المدلولات وليس على مستوى الدالات (مثلا، "يلعب في الساحة" هذه وحدة معنوية. يلعب في لساحة فهي بلا معنى). وبكلام أخر، ينطوي تكامل النص على معنى (شمولي) جديد، لكن تختفي العلامة الشمولية الجديدة، وهذا يشير إلى أننا لا نخرج على نطاق اللغة الطبيعية عندما تظهردلالة النص الشمولية. ولما كان تواجد النص الرابط لايفترض الخروج على نطاق اللغة الطبيعية ، فإن افتراض وجود "اللغات الثانوية" يتلاشى، ومع هذا التلاشي تنهار الفرضية السيميولوجية كلها من أساسها. يبرز المعنى الشمولي للنص بقوة الآلية اللغوية ، وبقوة السنن اللغوية الداخلية المعروفة، والتي ما تزال غير مدروسة، ولكنها مع ذلك موجودة، ولما كان الأمر كذلك، فإن المعنى الشمولي لتكامل الخطاب لا يمكن أن يأتي صدفة، يعني أن يكون خاضعًا لمواضعة اجتماعية خارجية محض، ولكنه يكون دائمًا معّللا بروابط لغوية. هذا التوضيح يمكن أن يتجلى ناصعًا إذا نظرنا إلى المثال الوارد أعلاه "التعازي الحارة" بطريقة مغايرة. فالمعنى الثانوي في هذه العبارة يحضر نتيجة الاختلاف العارض المضمر، الذي يعبر عن علاقة المتحدث (الذات المعبرة) بما يقوله موضوع التعبير. وعند استعمال البلاغة التعبيرية العالية للصيغة المذكورة فإن هذه الكيفية تظل دومًا واردة، مع عدم ضرورة ذلك. وبقول آخر، فإن صيغة "العزاء الحار" يمكن أن تبرز في حالات معلومة
شبيهة بقول: "يتعين علي أن أعبر لكم عن تعازي الحارة"، ومن هنا جاء المعنى الضمني "التقديرالمراسمي". لكن علاقة الذات -الموضوع التي يقوم عليها تعديل المعنى الشمولي للعبارة، هي علاقة شاملة وأساسية، ولا تنطوي على أية مواضعة.
من الطبيعي أن تكون وسيلة الحصول على دلالة سابقة للعبارة ليست متماثلة في الحالات
المختلفة. لكن، من الواضح أن المعنى في جميع هذه الحالات تحكمه دلالات مافوق العبارة؛ وعليه، فإن المعنى المتعالي للعبارة لا يأتي مصادفة أو اعتباطًا: وليس ثمة من اتفاق خاص بين الناس للحصول عليه، أي أنه لازم، ولا يمكن أن يكون شيئًا آخر لغير ما وجد له. إن المماثلة مابين الإشارات الضوئية واللغة والنص الأدبي في غير موضعها.
وفي الختام يمكن أن نقول بأن الحدود مابين المدلول والدال (يعني بين المعنى والصورة
الحقيقية)، تجيء في مكانها فقط في نطاق الكلمة، لكن تعميم ذلك ونقله إلى النص ليس صحيحًا على الإطلاق. فمثل هذا التعميم غير وارد قبل كل شيء، لأن الحد المذكور لا يوحي بالوضوح، وإنما يثير البلبلة. ولما كانت اللغة هي ما ينتج عن الدال والمدلول، فإن من الخطأ التأكيد علىأن اللغة على مستوى النص تكون دا ً لا ثانويًا: ومن نافل القول أن هذا أيضًا هو عبث، يضاهي القول بأن الكل المتكامل هو في الوقت ذاته يساوي مجموع أجزائه فقط. وينبثق عن ازدواجية الدال "الثانوي" هذه سوء فهم غريب نلاحظه عند بارت في كل خطوة يخطوها. وهكذا، فإن القيمة التحليلية لتعارض الدال -المدلول تضيع، إذا نحن نقلناها إلى غيرمكانها واختصاصها، يعني إلى الجانب الآخر من الكلمة... إلى النص. والخلل الثاني في المماثلة مابين الكلمة والنص يتلخص في أنه يتم من خلاله تعزيز التوكيد غير المؤسس بأن معنى النص هو مواضعة غير معّللة أو مسببة واعتباطية (مثله في ذلك مثل مايجري مع الكلمة التي تكون دلالتها غير معللة بالنسبة لصورتها الصوتية). من حيث الجوهر يتم في هذه المماثلة تناسي الفرق الحيوي مابين الكلمة والنص. ففي الكلمة الدال والمدلول غيرمتجانسين في طبيعتهما: الأول مادي، والثاني، روحي مثالي. وبين هذا وذاك لا يمكن أن تكون هناك علاقة مسببة، ولهذا الأمر لا يمكن أن تكون الرابطة في إطار الكلمة مابين الدال والمدلول شيئًا آخر سوى كونها رابطة اعتباطية. لكن في النص لا يمكن أن يكون الأمر مشابهًا لذلك:هنا المعنى الخارجي على العبارة (يعني معنى النص) معلل بمعنى ما هو داخل العبارة (بمعنى الكلمات المفردة)... معنى الكلمات يولد معنى النص، ولا يتطلب ذلك مواضعة إضافية جديدة بين الناس. ولهذا السبب، يمكن التوكيد على أن معنى النص معلل باللغة: حيث يمكن أن تتواجد مابين المعنى الداخلي والخارجي للعبارة علاقة سببية معّللة، بينما مثل هذه العلاقة لا وجود لها في مابين الدال والمدلول. لكن، بأية سنن دقيقة يتم تحقيق السببية اللغوية للمعنى في النص، هذه مسألة يحلها علم اللغة، وهي تهم أيضًا وبلا نقاش، علم الأدب. لكن، على طريق طرحها الصحيح، فإن اللسانيات البنيوية لا تمتلك الوسائل لذلك، ولما كانت افتراضية بارت السيميولوجية لا تتبنى هذا التباين مابين النص والكلمة، فإن هذا يدفع حتمًا إلى فكرة مواضعة النص الأدبي، ويفضي كذلك إلى التعسف الذاتي في تفسير النتاج الأدبي. أما التوكيد العكسي حول العّلة اللغوية للسياق، فإنه يأخذ بعين الاعتبار مضمونية الأدب... يعني موضوعيته. هكذا، فإن المعنى الواقع خارج العبارة ليس اعتباطيًا، وهو نتاج الدلالات الداخلية التي ينشأ عنها بناء على منطق لغوي داخلي ما. ولما كان الأمر كذلك، فإن افتراضية المنظومات الإشارية "الثانوية" تسقط، لأنها لا تثبت أمام وجهة النظراللغوية ذاتها، التي تصدر عنها.
دعنا نتناسى، ولو للحظة واحدة، أن بارت قد أقام آراءه على هذا الخلل غير السليم إلى حد ما، ونفترض أن الفرضية السيميولوجية صحيحة، وننسى ما ذكرناه سابقًا. فما هي التوكيدات العلم أدبية التي يشيدها بارت انطلاقًا من أسس اللسانيات البنيوية؟..
II- العواقب النظرية العامة لافتراضية 
"منظومة العلامات الثانوية".
1 - الإشارات العلاماتية تستثني مسألة علم الأدب (حسب بارت). وهكذا، يحدد بارت نوعين من الدلالات في النص الأدبي: الدلالة الحقيقية والدلالة الضمنية. الدلالة الأولى -هي المعنى المباشر الذي ينتج عن اللغة الطبيعية: الموضوع أو الدلالة الاجتماعية والمعرفية. المعنى الحقيقي -حسب بارت- هو المعنى الأولى، وهو غير مقصور على النتاج الأدبي، وعليه فهو غير مهم لدارس الأدب. وعلى عكس ذلك فإن المعنى الضمني هو جوهر العمل، وينظر إليه كدال متكامل: وهذا المعنى هو المعنى الأدبي المميز والخاص. ولما كان هذا معنى ضمنيًا فهو اعتباطي (لا ينبثق من طبيعة النص)، وعليه فإن النص يترك للقارئ. أما مسألة إدخال المعنى في النص، يعني مسألة الدلالة العلاماتية (العلاقة مابين الدال والمدلول)؛ فإنها تشكل -حسب رأي بارت- المسألة الأساسية في علم الأدب. كيف تتحقق الدلالة العلاماتية؟
أ ) إحدى أهم أفكار بارت -تأكيده على أن النص الأدبي من حيث الجوهر متعدد المعاني،
يعني أنه يخضع لشتى التأويلات المتباينة. ويفسر بارت ذلك بأن المعنى الخاص للنص "فارغ": "أستطيع القول إن الموضة والأدب هما منظومتان ساكنتان متماثلتان، يعني أنهما منظومتان لا تحضر وظيفتهما للإبلاغ عن معنى موضوعي محدد، يتواجد خارج أو أمام المنظومة نفسها، وإنما يحضر لإقامة التوازن الوظيفي والدلالة المتغيرة. ولما كانت الموضة ليست سوى ماجرى الحديث عنها، فإن المعنى الثانوي للأدب غير ثابت، "فارغ"، أيضًا، بغض النظر عن أن النص يعمل كدال لهذا المعنى "الفارغ". إن جوهر الموضة والأدب... في الدلالة العلاماتية، وليس في دلالتهما ذاتها".هذه الفكرة حول تعدد المعاني تمت صياغتها بشكل دقيق في تعريف بارت للأدب كمنظومة علامات تمتلك معنى "سلبيًا وإيجابيًا في الوقت ذاته".يقر بارت بأن هذا الوصف ينطبق على كل عمل أدبي، ويتجلى بوضوح خاص في الرواية المعاصرة. ويلاحظ بارت بإعجاب عندما يتناول روايات روب غرييه -أن هذه الأعمال تكشف جوهر الأدب بشكل عام أكثر من أي شيء آخر، لأن المعنى فيها شكلي خالص. يتطلب تعدد معاني الأدب وضع حد مابين علم الأدب والنقد الأدبي، ومابين النقد الأدبي والقراءة. وحسب بارت، فإن علم الأدب لا يهدف إلى..."تعليمنا ماهو المعنى الذي ينبغي أن نطرحه في العمل، لا يتعين على علم الأدب أن يطرح أو يكشف أي معنى مهما كان، وإنما مهمته وصف المنطق الذي وّلد الدلالة".
ويقول آخر: يبحث علم الأدب في الملابسات التي ولدت المعنى بشكل عام، وليس التأويل
الملموس لهذا العمل. المهمة الأخيرة المذكورة يشتغل عليها النقد الأدبي، وهو ليس علمًا وإنما ممارسة عملية. لكن، النقد الأدبي يظل دائمًا وحيد الجانب، لأنه ينتقي من بين عدد كبير من الدلالات الممكنة معنى واحدًا. إن إدراك تعدد دلالات العمل الملموس لا تعود للنقد، إنما للقارئلأنها تتحقق بالقراءة.
عندما يكون معنى أي نتاج "فارغًا" دائمًا، فمن الجلي أن القارئ يمنح تفسيره للعمل،
مستخدمًا في ذلك منظومة محددة من المفاهيم التي تشكل في كليتها شفرة ما، على سبيل المثال : يمكننا أن نفسر هذا النص حسب المشروع الثقافي/التاريخي، يعني نضعه في عداد مؤلفات العهود السابقة: في هذه الحالة، فإننا نستخدم أحد الشفرات "الثقافية" الممكنة.
لكن، يمكننا أن نقترب من هذا النص بشكل آخر، كأن نستخدم شفرة التحليل النفسي، ويمكننا استخدام شفرات أخرى كثيرة، وعندئذ نحصل على تفسيرات متباينة عديدة.
لكن، ماهو التفسير الأكثر صحة ودقة؟ حسب رأي بارت إن مثل التساؤل بلا معنى، ذلك
لأن النص المتعدد الدلالات، طبقًا لتعريفه، يمكن أن يتقبل جميع هذه التفسيرات جيدًا وبالتساوي."وهكذا، في جميع الحالات فإن النوايا الموضوعية للنقد التي تبحث عن دلالة وحيدة تأتي مضمخة بحالة اعتسافية لكل منظومة لغوية".فالتأويلات لاتخضع للموضوعية ولا إلى الشمولية: إنها بكليتها نتاج الذات المؤولة، التي تشكَّل وعيها وتعزز نتيجة المواضعات الاجتماعية العديدة السابقة. "إنني لست ذاتًا بريئة تتواجد قبل النص وتتعامل وإياه كشيء يمكن أن ينقَّى ويغربل، أو كحيز خال ينبغي ملؤه. أنا الذي ألج النص الذي يشكل عددًا من النصوص الأخرى ذات الشفرات التي لا تنتهي...النص الذي تضيع بدايته"...
ب) على الرغم من أن بارت يعتبر جميع التأويلات صحيحة، إلا أنه يفضل بشكل ملحوظ
التفسير القائم على التحليل النفسي للأدب: هذه هي أطروحته حول ميشليه وراسين. وهذا التفضيل يفسره بما يليِ: مع أن جميع التأويلات ممكنة ومتكافئة، إلا أنها ليست جميعها متكافئة من حيث الجودة. وفي هذه الحالة فإن قيمة التأويلات المنفردة ليس في مدى صحتها (فهذه المسألة بالنسبة لبارت لا معنى لها)، وإنما في مدى تقبلها. "إن أهمية النقد... لا تكمن في كفاءته في كشف العمل المنظور، وإنما في قدرته على الإلمام به حسب الإمكان بشكل تام من خلال لغته الخاصة". "من الضروري دائمًا اختيار النقد الشامل، الذي لايكون في حالة تمكنه من الإلمام بالجزء الأكبر منموضوعه".
ومن ثم يوضح بارت أن تناول ميشليه من جانب التحليل النفسي يتيح إدخال العناصر
الأيديولوجية في إبداعه وتفسيرها، بينما النقد الأيديولوجي عاجز عن أن يبين للعالم، ولو جزئيًا، تجارب ميشليه. وبكلمات أخرى فإن أفضل نقد هو النقد الشمولي.
دعنا ننظر في منهج بارت في التحليل النفسي. بهذا الخصوص، فإن أهم ملامح هذا النقد
تتجلى في تأويل بارت لإبداع راسين. في العادة حينما يحاول أنصار منهج التحليل النفسي في النقد الأدبي تحليل النتاج الفني يلجؤون إلى قول شيء ما جوهري حول شخصية المؤلف: النص هنا هونقطة الانطلاق، والهدف الأخير -معلومات عن المؤلف. وفيمواجهة مثل هذا النقد فإن منهج بارت في التحليل النفسي بنيوي: ففي هذه المقاربة ثمة علاقة ما مع النص تبقى قائمة، ويغيب الاهتمام بشخصية المؤلف. وبارت يحاول أن يكتشف في إبداع راسين شيئًا ما شبيهًا ب "الأنثروبولوجيا الراسينية". وهذا التحليل يفترض هنا عدم الاقتراب من راسين مطلقًا، وإنما من أبطاله فقط: إنه لا يقيم علاقة وطيدة مابين المؤلف والنتاج أو العكس؛ الحديث يدور هنا حول اختلاف تحليل مغلق؛ إنني أضع نفسي داخل عالم راسين المأساوي، وأحاول أن أصور وأصف الناس الذين يسكنونه". ويعتقد بارت أن أساس العالم المأساوي يكمن في التجزيء بشكل عام."التجزيء هنا شكل خالص: والأهم ازدواجية الوظيفة، وليس مصطلحاتها. الإنسان عند راسين لا ينشطر مابين الخير والشر، إنه مزدوج نسبيًا، ومشكلاته تنتظم على مستوى البنية، وليس على مستوى القيم الإنسانية". طبعًا، إن الوظيفة الثنائية الشكلية الخالصة لا معنى لها: ومع ذلك يتحدث
بارت عن معنى المصطلحات. وحسب رأيه فإن الصراع في تمثيليات راسين يتبدى فيما بين الأب والابن وليس بين الخير والشر، أو بين الشهوة والواجب كما يطرحه النقد البرجوازي التقليدي.وهكذا، فإن تأويل بارت القائم على هذه الموازنة ليس تأويلا أخلاقيًا مجردًا، وإنما هو تأويل نفسي/تحليلي.
ويرى بارت أن تراجيديات راسين تتخندق في نطاق رواية واحدة: تمرد الابن على الأب.... ومعادل الأب -قرابة الدم أو الرب (وحسب رأي بارت فإن إله راسين.... إله العهد القديم -المنتقم الجبار).
ملاحظة: إن النقد الأدبي القائم على التحليل النفسي، بغض النظر عن كونه يمتلك بنية أم لا، يشكو من عجزعام: إنه ينظر إلى الإنسان كظاهرة بيولوجية لاعقلية، وليس كظاهرة اجتماعية عاقلة. ولهذا. فإن النقد الأدبي القائم على التحليل النفسي يقف دائمًا في مواجهة مع علم الأدب الجدلي الموضوعي. أود هنا أن أتوقف خصيصًا على مسألة ثانية مستها جزئيًا مقاربة بارت التحليل/ نفسية.
حسب رأي بارت فإن قيمة هذه المقاربة في كونها تمثل "النقد الشامل ذاته"، يعني أن التأوييل النفسي/ التحليلي يمكن أن يشمل جميع التأويلات الاخرى -الأخلاقية، أو السوسيولوجية وغيرها.إن هذه التأكيدات خاطئة تمامًا. يتوصل بارت إلى هذه النتيجة لأنه يعتبر أن مفاهيم التحليل النفسي شكلية، يعني يمكن أن نطرح فيها شتى المضامين الملموسة والمختلفة. وبكلام مغاير، عندما يتحدث المحلل النفسي عن الأب لا يضع في هذه الكلمة المضمون الذي يضعه جميع الناس، وإنما يحتفظ بحقه في تسميته بأية
أشياء أخرى ممكنة، انطلاقًا من سمة ما، غالبًا ماتكون مصادفة، أن تتفق ومفهوم "الأب" بفضل مشابهة ما معروفة. بالنسبة لبارت كلمة الأب تعني "الوالد"، و"القرابة" و"السلطة"، و"الإله" و"الماضي"، وماشابه ذلك اعتمادًا على السياق. وعليه، تكون جميع المفاهيم الأخرى في التحليل النفسي هشة: هذه المفاهيم تشكل في ذاتها مجازات اعتباطية، وليس معايير علمية صارمة. وبفضل مرونتها أو هشاشتها فإن إقامة أية تراكيب معمارية أو بنيانية ممكنة الحدوث. ولهذا السبب، فإن النقد المدعم بالتحليل النفسي، يبدو لبارت "نقدًا زاخرًا وكام ً لا": إن هذا أكبر نقداعتباطي. وهذا بحد ذاته ليس ميزة، وإنما هو خلل فادح.
ج) إن فكرة حيوية تعدد معاني النص تفترض إدراكًا خاصًا للعملية الإبداعية. وطبقًا لرأي
بارت فإن من الخطأ أن نظن أن الكاتب ينطلق من أية فكرة فلسفية أو أخلاقية أو سياسية أواجتماعية، يسعى من خلال وسائل الفن أن يجسدها في نتاجه. فإذا تنازعت الكاتب أية أفكار تمهيدية أولية، فإن عمله لن يكون متعدد المعاني. ولما كان بارت يعتبر العمل الفني متعدد المعاني، فإنه مضطر؛ انطلاقًا من منطقه الخاص هذا، أن يسلم بأن الكاتب يبدع بعماء وبدون قصد تمهيدي.
تتكون العملية الإبداعية -حسب بارت- من فعلين أساسيين: تفريد العالم إلى جزئيات
هذان الفعلان يدمغان العملية الإبداعية (agencement) ودمج هذه الجزئيات ،(dàcoupage) بشكل عام، وهذا ما يتجلى لدى الكتاب البنيويين (عند بوتور على سبيل المثال)، الذين يعتبرهم بارت المعيار الحقيقي في الأدب...ولكن، إذا كانت آلية الكتابة بهذا الشكل، فإن إحدى مهمات دارس الأدب الأساسية -تحليل العمل المنظور انطلاقًا من عناصره المكونة، وتأويل المتغيرات الناتجة عن ذلك. هذا هو الهدف الذي يطرحه بارت أمامه عند تحليله لقصص بلزاك (سارازاين). "لا نية عندي لتقديم تأويل نقدي
للنص أو تحليل هذا النص، هدفي -هو عرض مادة المعاني (المجزأة والمدرجة في نظام)، لعدد من النقاد: حسب أغراضهم السيكولوجية أو التحليل/ نفسية أو الثيمية أو التاريخية أو البنيوية. ومن ثم فإن أي ناقد، متى أراد أن يعرض رأيه، الذي يصدر نتيجة إصغائه وتأمله في أحد تأويلات النص فليعرضه، هدفي -هو طرح المسودة لحيز الكتابة".
وهكذا، فإن بارت لا يقترح تأوي ً لا محددًا ل (سارازين)، وإنما يقصر رأيه على إبراز
المادة الخام التي يمكن أن نستخرج منها عددًا من التأويلات المتباينة لهذا العمل، يعني أنه يريد أن يبين أن النص يتكون من كثير من الدلالات.
ملاحظة: ثمة شك واضح في مدى مصداقية آلية (التفرد +التجميع): فهذا الشرح للعملية
ملاحظة: ثمة شك واضح في مدى مصداقية آلية (التفرد +التجميع): فهذا الشرح للعملية
الإبداعية يفترض أن المعنى يبرز بعد إيراد الدال. أما الحقيقة فهي تتلخص في عكس ذلك تمامًا: فالتفريد والتجميع يتمان على أساس الفكرة المصاغة مسبقًا بواسطة اللغة. من حيث الجوهر فإن هاتين العمليتين ليستا عمليتين مختلفتين، وإنما هي عملية واحدة تفترض وجود النص المدرك بشكل أساسي. فإذا تم تجزئة عناصر فارغة، فإن العملية تبقى فارغة في حالة التنظيم والتوصيف.فمن أين ينبع المعنى بعد ذلك؟ المسألة تتلخص في أن الأجزاء المذكورة، مهما كانت قبل تفريدها وإعادة تنظيمها، كانت زاخرة بالمعنى. وبكلام آخر أن الكاتب لا يركِّب مقاطع لا دلالة لها: إنه ينطلق من فكرة محددة تتحقق في النتاج، وليس عكس ذلك -كما يؤكد بارت-... ومع ذلك حتى لو ظهر أن بارت كان على حق، فإن التفريد والدمج هما عمليتان اعتباطيتان تمامًا: هذا مايقوله بارت، إلا أنه يفضل أن لا يتعمق في مسألة قانونية هذه العمليات. يكمن في أساس هذا الطرح إعادة تقييم خاطئة للدال وتجاهل المعنى: الحقيقة في واقع الأمرأن الدلالة في اللغة أولية، أما الوسيط المادي- فهو ثانوي....
تابع الموضوع بالنّقرعلى lire la suite اسفله
تابع الموضوع بالنّقرعلى lire la suite اسفله
المعيار الوحيد لقيمة الأدب الجمالية. فكلما أمعن النص في الإعلان بوضوح أوفر عن تعدد معانيه، تكون شدة الإحساس الغامض لدى القارئ، في أنه يتعامل مع نص حقيقي أقوى وأشد. "من الواضح، أننا نمنح هذه الأيام النصف للجمالية، والنصف الآخر للاعتبار الأخلاقي للمنظومات المتعددة المعاني بشكل ظاهر، وذلك بقدرما يقترب البحث الأدبي من حدود المعقولية -وفي النهاية، فإن شفافية الحالة الأدبية تصبح معيار القيمة. إن الأدب "الرديء"، -هو ذلك الأدب الذي يعبد وهم اكتمال المعنى، والأدب "الجيد"، على العكس من ذلك -هو ذلك الأدب الذي يصارع وبدون هوادة إغواء المعنى الواحد".
ومن جانب آخر، إذا كان النص متعدد المعاني، فإن القارئ ينتقي أحد دلالات النتاج الكثيرة الممكنة، ويصبح مبدعًا مشاركًا في النص، يعني أنه يشارك في إنجاز ما تركه الكاتب "مفتوحًا"، غير مبلور أو مكتمل، متعدد المعاني. وعليه، كلما كان تعددمعاني النتاج ناصعًا، فإن القارئ يمتلك إمكانية أوسع في النجاح إبداعيًا عند استيعاء النتاج واستكماله. إن مشاركة القارئ هذه في العمل الإبداعي تضطره إلى تقبل ذلك الإحساس الذي يسمى "اللذة الجمالية". أو :تعدد المعاني يهب المتعة للقارئ، وعلى العكس، فإن تأطير تعدد المعاني ليس سوى حجز لهذه المتعة. أن أقصى مايسعى إليه الأدب... أن يجعل من القارئ مبدعًا للنص وليس مستهلكًا حسب.
ه) إن الاعتراف بأن النص الأدبي متعدد المعاني في طبيعته يجر وراءه أثرًا مهمًا: لا
يمكن أن يمتلك النص بنية، فهو لايمكن أن يكون شيئًا آخر سوى كونه غير متشكِّل أو متبلور من وجهة نظر البنيان المعماري."لا ينبغي أن يكون للنص المتعدد المعاني بنية سردية أو نحوية أومنطق للقص". >"كل عنصر يكتسي دلالة متوالية لا تتوقف، ولا يعود بنا في المحطة الأخيرة إلى أية بنية". وعليه، فإن بارت "يهدم البناء"، لدى تحليله لقصة "سارازين"، ويحوله إلى خليط غيرمتشكل من الوحدات النصية المصغرة -والعملية هذه لا تصبو إلى "إضفاء صورة داخلية على النص، وإنما هي عبارة عن تجزيء الحدث إلى أشتات تكون القراءة".هذه المقاربة - حسب بارت - مقاربة دقيقة لأن القصة المنظورة عبارة عن "مجرة من الدالات"، وهكذا، إذا كان النص يحتضن عددًا كثيرًا من الدلالات، فإنه يمتلك عددًا هائ ً لا من البنى. ولما كان المعنى يوّلد البنية (فإن البنية من جانبها تولد النص)، والقارئ لا يضفي إلى النص المعنى حسب رؤيته فقط، وإنما يصنعه كما يشاء.
إن مقولة غياب البنية الكامنة في النص الأدبي قد تمت صياغتها بشكل واضح في أعمال
وجزئيًا في "مقالات نقدية"، على سبيل المثال، لكن هذه المقولة لم تكن في S/Z” بارت المتأخرة، غائبة تمامًا في دراسات بارت لعلم الأدب. ويمكن البحث عن جذورها في الفكرة القائلة بأن أي معنى هو معنى غير معلل أو متواضع عليه، ولا يمكن أن يكون له أي "أثر" في اللغة أو الأدب.هذه الفكرة هي إحدى أفكار بارت الأساسية، التي تم طرحها في بواكيرأعمال بارت. إن مقولة بارت حول عدم تشكل أو تبلور النص الأدبي هي حصيلة متأخرة نبعت من بداية فكرة المواضعة الأدبية.وبهذا يدفع بارت الشكلانية إلى مأزق يوردها إلى العبث. وبارت نفسه يحتل في ذلك موقعًا قاتلا... ومع كل هذا، فإن بارت في أعماله السابقة ("حول راسين"، والمقالة البرامجية "مدخل في التحليل البنيوي")، يفترض أن النص الأدبي مبنين. ويؤكد بارت في "مدخل في التحليل البنيوي
للقصة". على ضرورة دراسة "النحو السردي"، كمهمة نوعية لعلم الأدب، ويصل به الأمر إلى أن يقترح حلا لهذه المشكلة، يمثل، من حيث الجوهر، شكلنة لإنجازات (فلاديمير بروب)، وحسب رأي بارت فإن هذا "النحو السردي" ليس ألسنيًا، وإنما هو منطقي. وبقول آخر، فإن بارت في أعماله الأولى يترك مجالا للقول بأن المعنى الحقيقي للنص (يعني الحبكة) متبنين، وعليه، فهووحيد المعنى؛ أما تعددية المعاني فتنتمي إلى المعنى الضمني أو المضمر فقط. ولكن، كما قلنا سابقًا، فإن بارت يبتعد في أعماله المتأخرة عن وجهة النظر الجزئية هذه، ويصل إلى نتيجة مفادها التعدد المطلق لمعاني النص وعدم بنائيته.
2) نقد فهم بارت لمواضعة النص الأدبي.
في الملاحظات حول بعض فقرات الجزء السابق طرحت بعض الاعتراضات النقدية على بارت في المسائل الجزئية. وسأسعى الآن إلى كشف أكثر اللحظات خطرًا في رؤيته الفكرية.
في الملاحظات حول بعض فقرات الجزء السابق طرحت بعض الاعتراضات النقدية على بارت في المسائل الجزئية. وسأسعى الآن إلى كشف أكثر اللحظات خطرًا في رؤيته الفكرية.
أ) فكرة مواضعة النص الأدبي - هي مسلمة مثالية لا أدرية. لقد ذكرت أن فكرة تعددية
معاني النص الأدبي هي محصلة التسليم بأن معنى الأدب تواضعي. وهذا التسليم بدوره، يخفي توكيدًا مهما لم يعبر عنه بوضوح تام، وهو أن مضمون النتاج الأدبي ليس انعكاسًا للواقع الموضوعي، وإنما هو بنية فكرية تقويمية للذات -القارئ حقًا، إذا صح لنا عزو أي معنى لهذا النص ضمن أساس متكافئ، فهذا يعني إما أن النص ليس له أي معنى موضوعي (يعني لا يعكس العالم الموضوعي)، أو أننا لسنا في حالة تخولنا بالحديث عن مدى مصداقية هذا الانعكاس (إذا افترضنا وجوده). في الحالة الأولى فإن فكرة المواضعة تنبعث من مسلمة مثالية/ ذاتية، أما في الحالة الثانية فإنها تنبني على افتراض لا أدري. وفي كلا الحالتين فإن فكرة مواضعة النص الأدبي تنفي أن النص في جوهره هومعرفة الواقع فنيًا. فإذا أنت في لحظة ما وافقت على مثل هذا التوكيد، فإنك تصل إلى نتيجة مفادها أن الأساس في النتاج الأدبي ليس الدلالة المعرفية/ الاجتماعية...
عندئذ يكون الهدف الرئيس للأدب هو إدراك جوهره الإشاري الخاص، يعني انعكاس نفسه لنفسه. ويتبدى هذا واضحًا بشكل خاص في علاقة بارت بمفهوم "الواقعية"، فبعد أن "أثبت" بارت أن الواقعية وهم، استخلص قائلا: "في علاقة الأشياء ببعضها فإن الأدب لا واقعي في جوهره العميق".الأدب -ليس مرتبطًا بالراهن، أو الأصح، إنه ليس نسخة مماثلة للواقع، إنه عكس ذلك، إنه وعي عدم راهنية اللغة. وعليه، فإن "واقعية" الأدب ذاتها هي التي تعي بأنها لغة قبل كل شيء...الواقعية في هذه الحالة لا ينبغي تسميتها نسخًا للواقع، وإنما هي وعي اللغة: حينئذ لا يكون النتاج الذي "يعكس" الواقع أكثر "واقعية"، من ذلك العالم الذي يمتلك مضمونًا (مضمون غريب عن بنيته، يعني جوهره)، يمكنه دراسة الجوهر اللاحقيقي العميق للغة". لكن، إذا كان جوهر الأدب هكذا، فإن مهمة النقد ليست البحث في النص عن تصوير الواقع الموضوعي وانعكاسه، وإنما البحث عن المصداقية النسبية لهذا الانعكاس؛ النقد، حسب بارت، ينبغي أن يكون نشاطًا شكليًا (بالمعنى المنطقي للكلمة)، يعني ينبغي أن يدرس الطابع الإشاري للأدب...وهكذا، فإن فكرة تعددية المعنى ومواضعته مزدوجة: إنها تختزل في أساسها تصورًا محددًاعن جوهر الأدب، وهو تصور مثبت بشكل مثالي. وبغض النظر عن الحوار المفتوح المميز الذي
يخوضه بارت مع الأكاديمية التقليدية في علم الأدب، إلا أنه في واقع الأمر يقف في مواجهة المفهوم المادي العلمي للأدب، لاسيما الماركسي (وهو المبادأة العلمية الوحيدة في مواجهة علم الأدب البرجوازي).
ب) عندما حاولت تتبع منطق أفكار بارت في بداية هذه الدراسة كشفت عن الأسس الألسنية لنظريته. وهكذا، يبدو واضحًا مما ذكر أعلاه أن نقطة انطلاق آراء بارت ليست حول علم اللغة، بواسطة بعض التوكيدات (a’posteriori) وإنما هي فهم أيديولوجي تمهيدي للأدب المؤسس سلفًا البنيوية في علم اللغة، وهذه التوكيدات نفسها موضع جدل كبير. بنيوية بارت -ليست بنيوية علم اللغة، إنها أقرب ما تكون إلى معارضة علم اللغة، لأن بارت، وهو ينطلق من تصورات تبسيطية/ مبتذلة عن اللغة يضع علامة مساواة مابين اللغة والأدب والموضة وإشارات المرور.وبعد هدم الأوهام المؤشرة إلى أن بارت يبني نظرياته على منجزات علم اللسانيات (الألسنية) الحديث، يبدوجليًا أن بنيويته ليست سوى أحد. التجسيدات العديدة للأيديولوجية البرجوازية المعاصرة. ولكن لا أريد أن أتوقف هنا على هذا الجانب من البنيوية، لأنه جرت إضاءة هذه الموضوعة جيدًا من قبل مؤلفين آخرين كثيرين.
***
1 - الوحدات السردية لدى بروب ("مورفولوجيا الحكاية")، مشحونة بالمضامين، أما الوحداتاللاشكلية فهي تعود فقط إلى المعايير الملموسة المطبقة على القصص - الحكايات الشعبية الروسية.
2- خصص بارت لهذا الجدال آتابة "النقد والحقيقة"، وفيه يعارض المنهج السيكولوجيالسيكولوجي/الذاتي فيعلم الأدب.
الموضوع منقول وكي تكون الإستفادة عامّة ...
المعذرة لكاتب النّصّ الأصلي ...
الموضوع منقول وكي تكون الإستفادة عامّة ...
المعذرة لكاتب النّصّ الأصلي ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق